Tuesday, September 29, 2015

مقال ردئ عن فن ردئ

في
 سنين الطفولة والصبا الباكر-أواخر عقد التسعينات وبداية الألفية-كان لجهاز الكاسيت "المُسجل" ذي البكرتين أهمية مركزية في بيتنا ففي ظل الإنسداد المُزمن للمجال الثقافي والعام وقبل الزحف اللاهث لأطباق الأقنية الفضائية والحواسيب الشخصية فيما بعد،شكل "الجهاز"فضاءاً متعالياً للترفيه .
إحتلت فرقة "عقد الجلاد" وتسجيلاتها مرتبة ثانوية في قائمة الأغاني الأكثر تشغيلاً علي "الجهاز" بعد محمود عبد العزيز وجمال فرفور وبقية مطربي الجيل،رغم ذلك لن أنسي ذلك الزلزال الصغير الذي وقع علي نفسي آنذاك وأنا أستمع للمرة الأولي لتسجيل أغنية "أمونة"من ألبوم عذراً حبيبي الصادر في أواخر الثمانينات، لن أنسي اللحن الجنائزي الذي بدا حينها وكأنه يأتي من زمان قبل بدء الزمان ..الكلمات الغامضة بإصوات عوض الله بشير ..أنور ومنال بدر الدين..لم أفهم شيئاً من الكلمات بالطبع لكن للأُغنية تأثير مخيف غامض يوحي بأن هنالك أُفقاً اخر مبهم لكنه مُختلف..توحي الأغنية هذه إذاً بالفرادة والإختلاف...توحي بالتقدم!!
 فالفرقة  التي تأسست فعلياً في أواخر العام 1988علي يد بعض من طلاب وخريجي وأساتذة المعهد العالي للموسيقي والمسرح شكلت إضافة تجديدة وتجريبية في خارطة الموسيقي الحديثة السودانية علي عُدة مُستويات إبتداءاً من شكل الغناء الجماعي نفسه الذي لم يكن موجوداً في الأغنية السودانية الحديثة رغم تجذره الشعبي في أغاني البقارة والمحس والدينكا وغيره علي نحو ما يذهب إليه الباحث عثمان تراث في دراسة له١ نقتبس منها: "سعت عقد الجلاد منذ بدايتها لتكوين أوركسترا بشري تتوزع مهام الأداء الغنائي فيه على الأصوات المختلفة للمغنيين في المجموعة، بحيث تنتج في محصلتها لوحات سماعية بدرجة تجعل الأغنية دون أي صوت من هذه الأصوات عمل ناقص ومبتور
وفي ذلك لجأت المجموعة لعدة أشكال من أشكال الغناء الجماعي، فأدت بعض الأغنيات عن طريق ظهور مجموعة أصوات (المجموعة) - المختلفة في أنواعها ودرجاتها – بشكل متزامن لتخلق بناءً توافقياً يعمق اللحن ويبرز جماله، إذ يغني كل فرد من أفراد المجموعة بصوت يختلف عن صوت لحن الأساس، لكنه يتوافق معه ويخلق انسجاما وعمقاً لحنياً وأدائياً.
"عثمان تراث-عقد الجلاد والسمندل مكتسبات جديدة للأغنية والموسيقي في السودان


كما يمكن أن نلحظ بسهولة البعد التجديدي في إختيار الكلمات المُغناة حيث رفدت الفرقة من معين التيار الحديث في الشعر العامي في السودان الذي ساد الساحة الشعرية في الثمانينات والتسعينات (القدال حميد وغيرهم)
مع بعض الإقحام الموفق لكلمات وموتيفات لحنية من التراث كانت مُهملة وعلي هامش التيار الرئيسي لموسيقي المدن (أوضح مثال لها في أغنية "أب قرجة" ولاحقاً "مُسدار أبو السرة" وغيرها)،كما لاتُخفي الإنحيازات الإجتماعية وربما السياسية لمشروع الفرِقة كما يظهر في كلمات وبعض ألحان الأغاني -علي الأقل- وإدراج أصوات الهامش في محاولة لإسماع صوت التابع كما أسلفنا.

الجمهور:
هذا الذي أسميته "الإنحياز السياسي" يظهر بصورة أوضح بتفحُصنا للجمهور التقليدي للفرقة والمُكون أساساً من فئة من شباب الطبقة الوسطي المدينيين طلبة وخريجي الجامعات وشباب المهنيين المُسيسين بشكل أو  بآخر والمرتبطين بمشاريع وتصورات سياسية يميناً (الحريات الفردية والتنوع والإختلاف..الخ) ويساراً(المساواة والعدالة الإجتماعية ) مع بعض الإستثناءات بالطبع.
بدايةً من مُنتصف التسعينات حتي نهاية العقد بدأت الخلافات تدب في جسد الفرقة إذ هاجر معظم الحرس القديم إلي أوروبا وأميركا   ونتيجة للضغوط والتدهور الإقتصادي والإجتماعي وبالطبع الثقافي إنفرط حبل العقد الفريد..قلت الأعمال الجديدة وكذلك الحفلات الجماهيرية بشكل ملحوظ ستواصل الفرقة بهذه الطريقة حتي عام منتصف الألفية لتعاود الظهور من جديد حتي الإنفصال الشهير لمؤسس الفرقة عثمان النو مع وعضو الفرُقة الشهير الخير أحمد لتبدأ بعدها الفِرقة مرحلة جديدة هي التي تُرمي هذه الكتابة إلي محاولة الإشتباك النقدي معها.


بالنسبة لي تتميز الأعمال المتأخرة للفرقة بِسمة أساسية :محاولة باهتة لإعادة إنتاج الأعمال الأولي للفرقة بدلاً من التجديد والإبتكار وتقديم أعمال الهدف الأساسي منها هو الإستثارة العاطفية للجمهور ،تحديداً  الحزن المصاحب لإستذكار الماضي (النوستالجيا) كما في العديد من المقاطع كما في "يابا مع السلامة" و "كلم الزهرة" عن طريق ألحان "حزينة هادئة" تحاكي أناشيد الأطفال  أو إستثارة عاطفة الحماسة أو الهياج والغضب كما في أعمال مثل "الشارع" و"كفاكي" أو المزج بين العاطفتين كما في الأغنية الشهيرة "طواقي الخوف".
كيتش أم فن:
"
هذ التهييج العاطفي المُتعمد أعتبره مثال لما
يسمي في أدبيات النقد الجمالي الغربي ((الكيتش))
الأصل اللغوي لكلمة ((كيتش)) هو اللغة الألمانية حيث يأتي المعني الحرفي (يُلطخ بالطين) لكن الكلمة التي شاع إستخدامها بين تجار التحف في أوروبا إبتداء من ستينات القرن التاسع عشر للدلالة علي التّحف واللوحات المُقلدة ستدخل قواميس النقد الجمالي للدلالة علي الفن الردئ والرخيص في مقابل الفن العالي أو مايسمي بالثقافة الرفيعة،الكيتش إذاً هو الفن الذي يسعي إلي إنتاج أعمال فنية تحاكي أعمالاً "رفيعة" لجمهور أكبر من المُتلقيين بشكل مُبسط وخالي من التعقيد لا يستثير أسئلة بقدر ما يُحرك عاطفة ولا يدعو للتفكر
.
الجمهور مرة أُخري:
حاولت في الفقرة السابقة تقييم نقدي للأعمال المتأخرةللفرقة -بإستخدام مفهوم الكيتش السابق-لأُدلل علي ما أعتبره نكوصاً عن الأسلوب الفني للفرقة في بدايتها(التنوع والتجديد والتجريب والإبتكار) .يظهر جلياً هذا الكيتش في العروض الحية للفرقة والتي تُشكل المصدر الأساسي لتمويل الفرقة والتربح بعد إنهيار سوق الكاسيت والأُسطوانات خذ مثلاً الأداء الميلودرامي المفتعل لإستثارة الجمهور من قبل عضو الفرقة الشهير شريف شرحبيل في "يابا " وغيرها إذ يكاد يتوسل الجمهور الإنفعال...نًعرج بعد ذلك إلي جمهور الفرقة مرة أُخري ،إذ من المُلاحظ إذدياد جمهور الفرقة بصورة ملحوظة في السنوات الأخيرة_ لكنه لم يخرج من الترسيمة الإجتماعية السابق ذكرها -وبالتزامن مع تصاعد الحراك الثوري في الشارع أعوام ٢٠١١و ٢٠١٢و٢٠١٣ وتراجعه في الأعوام اللاحقة  إكتسبت "حفلات عقد الجلاد " شكل من أشكال تثقيف السياسة حيث يقوم الجمهور بهتافات ثورية ومعادية "للنظام" بعد مقاطع معينة وظاهرة رش الماء الشهيرة في أغنية حاجة آمنة بل الهتاف بالحرية و"إسقاط النظام" بعد نهاية الحفل قرب أبواب المسارح.إكتسب الكيتش الجلادي إذاً بُعداً تطهرياً جديداً إذ أصبح بإمكانناً الهتاف ضد النظام داخل الأسوار الآمنة لحديقة عبود وأن نرجع الي بيوتنا حاملين التطهر والهناء الآمين حاسبين أنفسنا(ونحن واهمون بالطبع) بنشوة التطهر بعد الإحتجاج المشهدي وتفريغ الإنفعالات وفعلنا ما فشلنا فيه في أرض الواقع.
أخشي أن يساء فهم الكتابة السابقة وإعتبارها إنكار للأساس الإجتماعي والتجربة التاريخية التي تنبني عليها كل الفنون في كل زمان ومكان حاولت تجاوز ثنائية الفن للفن/الفن الرسالي أو الهادف .وكانت مهمة التجاوز هنا سهلة نسبياً فالتجربة الجلادية المُتأخرة لم تقدم فناً رفيعاً متعالياً ولم تقدم رسالة مجتمعية ما (بالعكس كل ما تقدمه هو التسكين والتخدير والإحتواء) لإرضاء فئة محددة مُختارة لأجل المذيد من التربح والمذيد من الكيتش